فصل: تفسير الآيات (26- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال التستري:
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يوْمئِذٍ نّاضِرةٌ إلى ربها ناظِرةٌ} [22-23]
قال: من قتله حبه فديته رؤيته.
ثم قال: جزاء الأعمال الجنة، وجزاء التوحيد النظر إلى الحق عز وجل.
وحكي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: سيروا للبلاء وتجهزوا للفناء واستعدوا للقاء.
وكانت رابعة رضي الله عنها تقول: إلهي، إني أحب الدنيا لأذكرك فيها، وأحب الآخرة لأراك فيها.
إلهي، كل ساعة تمر علي لا يكون لساني فيها رطبا بذكرك فهي مشؤومة.
إلهي، لا تجمع عليّ أمرين، فإني لا أطيقهما، الإحراق بالنار والفراق منك. اهـ.

.تفسير الآيات (26- 35):

قوله تعالى: {كلّا إِذا بلغتِ التّراقِي (26) وقِيل منْ راقٍ (27) وظنّ أنّهُ الْفِراقُ (28) والْتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ (29) إِلى ربِّك يوْمئِذٍ الْمساقُ (30) فلا صدّق ولا صلّى (31) ولكِنْ كذّب وتولّى (32) ثُمّ ذهب إِلى أهْلِهِ يتمطّى (33) أوْلى لك فأوْلى (34) ثُمّ أوْلى لك فأوْلى (35)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر محبتهم للعاجلة بالمضارع الدال على التجدد والاستمرار، فاقتضى ذلك أنه حب غيره منفك التجدد أصلا، أخبر أنه ينقطع عن هول المطلع مع الدلالة على تمام القدرة، وأنه لا يرد قضاؤه، فقال رادعا لمن يظن عدم انقطاعه: {كلا} أي لا يدوم هذا الحب بل لابد أن ينقطع انقطاعا قبيحا جدا.
ولما كان المحب للدنيا هو النفس، أضمرها لذلك ولدلالة الكلام عليها فقال ذاكرا ظرف ما أفهم حرف الردع تقديره من عدم المحبة: {إذا بلغت} أي النفس المقبلة على العاجلة بأمر محقق- بما أفهمته أداة التحقق {التراقي} أي عظام أعالي الصدر، جمع ترقوة وهي العظام التي حول الحلقوم عن يمين ثغرة النحر وشمالها بين الثغرة وبين العاتق، ولكل إنسان ترقوتان، وهو موضع الحشرجة، لعله جمع المثنى إشارة إلى شدة انتشارها بغاية الجهد لما هي فيه من الكرب لاجتماعها من أقاصي البدن إلى هناك وضيق المجال عليها كأنها تريد أن تخرج من أدنى موضع يقرب منها، وهذا كناية عن الإشفاء على الموت وما أحسن قول حاتم الطائي وأشد التئامه مع ما هنا من أمر الروح:
أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

ولما كان أهل الميت يشتد انزعاجهم إذ ذاك ويشتد تطلبهم لما ينجي المحتضر من غير أن يفيدهم ذلك شيئا، فكان قولهم كأنه لا قائل له على التعيين، بني للمفعول قوله: {وقيل} أي من كل قائل يعز عليه الميت استفهام استبعاد: {من راق} أي من هو الذي يتصف برسوخ القدم في أمر الرقى الشافية ليرقيه فيخلصه مما هو فيه فإنه صار إلى حالة لا يحتمل فيها دواء فلا رجاء إلا في الرقى، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن هذا القول من بعض الملائكة للاستفهام عمن يرقى بروحه إلى السماء: أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فالأول اسم فاعل من رقى يرقى بمعنى الرقية بالفتح في الماضي والكسر في المضارع، والثاني الذي بمعنى الصعود بالكسر في الماضي والكسر في المضارع.
ولما كان الإنسان مطبوعا على الترجح بين الأمور الممكنة تتعلق لما يغلب عليه من طبع الإلف وشدة الركون لما يألفه بأدنى شيء، عبر عما هو أهل للتحقق بالظن فقال: {وظن} أي المحتضر لما لاح له من أمور الآخرة أو القائل (هل من راق) من أهله {أنه} أي الشأن العظيم الذي هو فيه {الفراق} أي لما كان فيه من محبوب العاجلة الذي هو الفراق الأعظم الذي لا فراق مثله، ففي الخبر أن العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وأن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول: السلام عليك تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة: {والتفت الساق} أي هذا النوع {بالساق} أي انضمت إليها واتصلت بها ودارت إحداهما بالأخرى فكانتا كالشيء الواحد، وهو كناية عن الموت لأن المشي لا يكون إلا مع انفصال إحدى الساقين عن الأخرى، أو عن اشتداد الأمر جدا وبعده عن الخلاص، فإن العرب لا تذكر الساق في مثل هذا السياق إلا في أمر شديد مثل (شمر عن ساق) وإذا اشتد حراب المتحاربين: (دنت السوق بعضها من بعض) فلا افتراق إلى عن موت أحدهما أو أشد من موته من هزيمته، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه كناية عن اختلاط شدة آخر الدنيا بشدة أول الآخرة، وجواب إذا محذوف تقديره: زال تعلقه الذي كان بالدنيا وحبه لها وإعراضه عن الآخرة.
ولما صور وقت تأسفه على الدنيا وإعراضه عنها، ذكر غاية ذلك فقال مفردا النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب إشارة إلى أنه لا يفهم هذا حق فهمه غيره: {إلى ربك} أي موعد وحكم المحسن إليك بإرسالك وتصديقك في جميع ما بلغته عنه ونصرك على كل من ناواك، لا إلى غيره {يومئذ} أي إذ وقع هذا الأمر {المساق} أي السوق وموضع السوق وزمانه، كل ذلك داخل في حكمه، قد انقطعت عنه أحكام أهل الدنيا، فإما أن تسوقه الملائكة إلى سعادة بينة وإما إلى شقاوة بينة، أو هو كناية عن عرضه بعد الموت على الله تعالى فلا ينفعه إذا حقق له الوعظ بالموت قوله: أموت فأستريح، فإنه يرجع بالموت إلى سيده، فإن كان مطيعا لقيه بما يرضيه، وإن كان عاصيا لقيه بما يلقى به العبد الآبق على قدر إباقه.
ولما ذكر كراهته للآخرة ذكر أن سببه إفساده ما آتاه الله من قوى العلم والعمل بتعطيلهما عن الخير واستعمالهما في الشر فقال مبينا عمل العبد الموافق والآبق، عاطفا على {يسأل أيان} [القيامة: 6] الذي معناه جحد البعث: {فلا صدق}- أي هذا الإنسان الذي الكلام فيه- الرسول فيما أخبره بما كان يعمل من الأعمال الخبيثة، ولا إيمانه بالإنفاق في وجوه الخير التي ندب إليها واجبة كانت أو مسنونة، وحذف المفعول لأنه أبلغ في التعميم.
ولما ذكر أصل الدين، أتبعه فروعه دلالة على أن الكافر مخاطب بها فقال: {ولا صلّى} أي ما أمر به من فرض وغيره، فلا تمسك بحبل الخالق ولا وصل إلى حبل الخلائق على حد ما شرع ما.
ولما نفى عنه أفعال الخير، أثبت له أفعال الشر فقال: {ولكن} أي فعل ضد التصديق بأن {كذب} أي بما أتاه من الله {وتولى} أي وفعل ضد الصلاة التي هي صلة بين المخلوق والخالق، فاجتهد في خلاف ما تدعوه إليه فطرته الأولى المستقيمة من الإعراض عن الطاعة من الصلاة وغيرها حتى صار له ذلك ديدنا، فصارت الطاعة لا تخطر له بعد ذلك على بال لموت الفطرة الأولى وحياة النفس الأمارة بالسوء، وليس هذا بتكرار لأنه لا يلزم من عدم التصديق التكذيب.
ولما كان الإصرار على هذا عظيما يبعد كل البعد أن يعمله أحد فكيف بالافتخار به والتكبر لأجله، أشار إليه بأداة البعد، فقال مؤذنا بأن الحال على التكذيب الكبر، والحامل على الكبر الترف، وسبب ذلك الانقياد أولا مع الطبع في إفساد القوتين: العملية والعلمية حتى نشأ عنهما هذا الخلق السيئ، وهو عدم المبالاة، ولم يزل به ذلك حتى صار ملكة يفتخر به {ثم ذهب} أي هذا الإنسان بعد توليه عن الحق {إلى أهله} غير مفكر في عاقبة ما فعل من التكذيب حال كونه {يتمطّى} أي يفتخر افتخارا بتكذيبه وإعراضه وعدم مبالاته بذلك، من المط، أبدل الحرف الثاني ألفا تخفيفا فصار من المطي وهو الظهر كأنه يساعده على مد الخطى، أو أن المتبختر إذا مشى لوى ظهره، وإنما فعل هذا لمرونه على المعصية بدل الاستحياء والخجل والانكسار.
ولما كان هذا غاية الفجور، وكان أهل الإنسان يحبونه إذا أقبل إليهم لاسيما إذا كان على هذه الحالة عند أغلب الناس، أخبر بما هو حقيق أن يقال له في موضع (تحية أهله) من التهديد العظيم فقال: {أولى لك} أي أولاك الله ما تكره، ودخلت اللام للتأكيد الزائد والتخصيص، وزاد التأكيد بقوله: {فأولى} أي ابتلاك الله بداهية عقب داهية، وأبلغ ذلك التأكيد إشارة إلى أنه يستحقه على مدى الأعصار، فقال مشيرا بأداة التراخي إلى عظيم ما ارتكب وقوة استحقاقه لهذا التأكيد: {ثم أولى لك} أي أيها الذي قد أحل نفسه بالغفلة دون محل البهائم {فأولى} أي وصلت إلى هذا الهلاك بداهية تعقبها تارة متواليا وتارة متراخيا، وبعضها أعظم من بعض، لحقك ذلك لا محالة، فإن هذا دعاء ممن بيده الأمر كله، ويجوز أن يكون المعنى: أولى لك أن تترك ما أنت عليه وتقبل على ما ينفعك، وقال ابن جرير في تفسير المدثر: إن أبا جهل لما استهزأ على جعل خزنة النار تسعة عشر أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له: أولى لك- إلى آخرها، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو جهل: والله لا تفعل أنت وربك شيئا، فأخزاه الله يوم بدر- انتهى.
ويمكن تنزيل الكلمات الأربع على حالاته الأربع: الحياة ثم الموت ثم البعث ثم دخول النار، فيكون المعنى: لك المكروه الآن وفي الموت والبعث ودخول النار.
قال البغوي: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة فرعونا، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل» وقد أفهمت الآية أن من أصلح قوتي علمه وعمله بأن صدق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأقبل وأقام الصلاة فتبعتها جميع الأعمال التي هي عمادها، فنشأ عن ذلك خلق حسن وهو الوجل مع الطاعة، فهنالك يقال له: بشرى لك فبشرى ثم بشرى لك فبشرى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{كلّا إِذا بلغتِ التّراقِي (26)}
قوله تعالى: {كلاّ} قال الزجاج: كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة، وعلمتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا، فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين، وقال آخرون: {كلاّ} أي حقا إذا بلغت التراقي كان كذا وكذا، والمقصود أنه لما بين تعظيم أحوال الآخرة بين أن الدنيا لابد فيها من الانتهاء والنفاد والوصول إلى تجرع مرارة الموت.
وقال مقاتل: {كلاّ} أي لا يؤمن الكافر بما ذكر من أمر القيامة، ولكنه لا يمكنه أن يدفع أنه لابد من الموت، ومن تجرع آلامها، وتحمل آفاتها.
ثم إنه تعالى وصف تلك الحالة التي تفارق الروح فيها الجسد فقال: {إِذا بلغتِ التراقى} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
المراد إذا بلغت النفس أو الروح، أخبر عما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب بذلك، كقوله: [القدر: 1] والتراقي جمع ترقوة.
وهي عظم وصل بين ثغرة النحر، والعاتق من الجانبين.
واعلم أنه يكنى ببلوغ النفس التراقي عن القرب من الموت، ومنه قول دريد بن الصمة:
ورب عظيمة دافعت عنها ** وقد بلغت نفوسهم التراقي

ونظيره قوله تعالى: {فلولا إذا بلغتِ الحلقوم} [الواقعة: 83].
المسألة الثالثة:
قال بعض الطاعنين: إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها عن القلب ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي، تبقى الحياة حتى يقال فيه: من راق، وحتى تلتف الساق بالساق والجواب: المراد من قوله: {حتى إِذا بلغتِ التراقى} أي إذا حصل القرب من تلك الحالة.
{وقِيل منْ راقٍ (27)} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في راق وجهان الأول: أن يكون من الرقية يقال: رقاه يرقيه رقية إذا عوذه بما يشفيه، كما يقال: بسم الله أرقيك، وقائل هذا القول على هذا الوجه، هم الذين يكونون حول الإنسان المشرف على الموت، ثم هذا الاستفهام، يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنهم طلبوا له طبيبا يشفيه، وراقيا يرقيه، ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار، كما يقول القائل عند اليأس: من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت الوجه الثاني: أن يكون قوله: {منْ راقٍ} من رقى يرقي رقيا، ومنه قوله تعالى: {ولن نُّؤْمِن لِرُقِيّك} [الإسراء: 93] وعلى هذا الوجه يكون قائل هذا القول هم الملائكة.
قال ابن عباس: إن الملائكة يكرهون القرب من الكافر، فيقول ملك الموت من يرقى بهذا الكافر، وقال الكلبي: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة، وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض، أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو {منْ راقٍ}.
المسألة الثانية:
قال الواحدي إن إظهار النون عند حروف الفم لحسن، فلا يجوز إظهار نون من في قوله: {منْ راقٍ} وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله: {منْ راقٍ} و{بلْ ران} [المطففين: 14] قال أبو علي الفارسي، ولا أعرف وجه ذلك، قال الواحدي، والوجه أن يقال: قصد الوقف على من وبل، فأظهرها ثم ابتدأ بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراءة.
{وظنّ أنّهُ الْفِراقُ (28)}
قال المفسرون: المراد أنه أيقن بمفارقته الدنيا، ولعله إنما سمي اليقين هاهنا بالظن، لأن الإنسان ما دام يبقى روحه متعلقا ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة على ما قال: {كلاّ بلْ تُحِبُّون العاجلة} [القيامة: 20] ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم.
واعلم أن الآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن، لأنه تعالى سمى الموت فراقا، والفرق إنما يكون لو كانت الروح باقية، فإن الفراق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف.
{والْتفّتِ السّاقُ بِالسّاقِ (29)}
الالتفاف هو الاجتماع، كقوله تعالى: {جِئْنا بِكُمْ لفِيفا} [الإسراء: 104] وفي الساق قولان: القول الأول: أنه الأمر الشديد، قال أهل المعاني: لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقه، فقيل للأمر الشديد: ساق، وتقول العرب: قامت الحرب على ساق، أي اشتدت، قال الجعدي:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

ثم قال: والمراد بقوله: {والتفت الساق بالساق} أي التفت شدة مفارقة الدنيا ولذاتها وشدة الذهاب، أو التفت شدة ترك الأهل، وترك الولد، وترك المال، وترك الجاه، وشدة شماتة الأعداء، وغم الأولياء، وبالجملة فالشدائد هناك كثيرة، كشدة الذهاب إلى الآخرة والقدوم على الله، أو التفت شدة ترك الأحباب والأولياء، وشدة الذهاب إلى دار الغربة والقول الثاني: أن المراد من الساق هذا العضو المخصوص، ثم ذكروا على هذا القول وجوها أحدها: قال الشعبي وقتادة: هما ساقاه عند الموت أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى والثاني: قال الحسن وسعيد بن المسيب: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن والثالث: أنه إذا مات يبست ساقاه، والتصقت إحداهما بالأخرى.
{إِلى ربِّك يوْمئِذٍ الْمساقُ (30)}
المساق مصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول، ثم فيه وجهان أحدهما: أن يكون المراد أن المسوق إليه هو الرب والثاني: أن يكون المراد أن السائق في ذلك اليوم هو الرب، أي سوق هؤلاء مفوض إليه.
{فلا صدّق ولا صلّى (31)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه، وفيما يتعلق بدنياه.
أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين، ولكنه كذب به، وأما ما يتعلق بفروع الدين، فهو أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض، وأما ما يتعلق بدنياه، فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى، ويتبختر، ويختال في مشيته، واعلم أن الآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقهما بترك الإيمان.
المسألة الثانية:
قوله: {فلا صدّق} حكاية عمن؟ فيه قولان: الأول: أنه كناية عن الإنسان في قوله: {أيحسب الإنسان ألّن نّجْمع عظامه} [القيامة: 3] ألا ترى إلى قوله: {أيحسب الإنسان أن يُتْرك سُدى} [القيامة: 36] وهو معطوف على قوله: {يسْئلُ أيّان يوْمُ القيامة} [القيامة: 6] والقول الثاني: أن الآية نزلت في أبي جهل.
المسألة الثالثة:
في {يتمطى} قولان: أحدهما: أن أصله يتمطط أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه، فقلبت الطاء فيه ياء، كما قيل: في تقصى أصله تقصص والثاني: من المطا وهو الظهر لأنه يلويه، وفي الحديث: «إذا مشت أمتي المطيطي» أي مشية المتبختر.
المسألة الرابعة:
قال أهل العربية: {لا} هاهنا في موضع لم فقوله: {فلا صدّق ولا صلى} أي لم يصدق ولم يصل، وهو كقوله: {فلا اقتحم العقبة} [البلد: 11] أي لم يقتحم، وكذلك ما روي في الحديث: «أرأيت من لا أكل ولا شرب، ولا استهل» قال الكسائي: لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها حتى تتبعها بأخرى، إما مصرحا أو مقدرا، أما المصرح فلا يقولون: لا عبد الله خارج حتى يقولون، ولا فلان، ولا يقولون: مررت برجل لا يحسن حتى يقولوا، ولا يجمل، وأما المقدر فهو كقوله: {فلا اقتحم العقبة} ثم اعترض الكلام، فقال: {وما أدْراك ما العقبة فكُّ رقبةٍ أوْ إِطْعامٌ} [البلد: 12، 14] وكان التقدير لا فك رقبة، ولا أطعم مسكينا، فاكتفى به مرة واحدة، ومنهم من قال التقدير في قوله: {فلا اقتحم} أي أفلا اقتحم، وهلا اقتحم.
{أوْلى لك فأوْلى (34) ثُمّ أوْلى لك فأوْلى (35)}
قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل.
ثم قال: {أولى لك فأولى} توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعز أهل هذا الوادي، ثم انسل ذاهبا، فأنزل الله تعالى كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى قوله: {أولى لك} بمعنى ويل لك، وهو دعاء عليه، بأن يليه ما يكرهه، قال القاضي: المعنى بعد ذلك، فبعدا (لك) في أمر دنياك، وبعدا لك، في أمر أخراك، وقال آخرون: المعنى الويل لك مرة بعد ذلك، وقال القفال: هذا يحتمل وجوها أحدها: أنه وعيد مبتدأ من الله للكافرين والثاني: أنه شيء قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدوه فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه، فأنزل الله تعالى مثل ذلك والثالث: أن يكون ذلك أمرا من الله لنبيه، بأن يقولها لعدو الله، فيكون المعنى {ثُمّ ذهب إلى أهْلِهِ يتمطى} [القيامة: 33] فقل له: يا محمد: {أولى لك فأولى} أي احذر، فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه. اهـ.